رئيسيعام

الدولة العميقة التي لا يقدر عليها أحد.. كيف يسيطر لوبي النفظ والسلاح على القرار السياسي الأمريكي؟

مع صعود نجم الديمقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى بعد فوز الرئيس المنتخب جو بايدن الكاسح، وسيطرة الحزب الديمقراطي على مجلسي الشيوخ والنواب والبيت الأبيض للمرة الأولى، تبرز مسألة الثوابت الوطنية الأمريكية للمراقبين والمحللين. 

وهي الثوابت التي يتفق عليها الحزبان الديمقراطي والجمهوري، ولا تتغير بتغير سيد البيت الأبيض كل بضع سنوات. وهذه الثوابت تتفق عليها مراكز الأبحاث والإدارات الرئيسية المسؤولة عن أمور بعينها، بالإضافة إلى ما يسمى بـ(الدولة العميقة) التي تسيطر على أمور، وتترك أخرى للرؤساء الأمريكان وأحزابهم. ومن هذه الثوابت العلاقة بين الشركات الكبرى المملوكة للدولة وعلاقتها بالسياسة الخارجية والداخلية لواشنطن.

فخلال القرن الماضي كانت شركات النفط والسلاح الأمريكية الكبرى، بجانب جماعات الضغط المالية في وول ستريت، هي جهات تُسهم بصورة كبيرة في عملية صنع القرار الأمريكي، ويرى كثيرون أن الشركات المذكورة هي صانع القرار الرئيسي، والسياسيون والسلطات التشريعية مجرد جهة تساعد في تمرير الخطط الكبرى، وأن إحدى السياسات الثابتة للإدارات الأمريكية المتعاقبة كانت السيطرة على الدول الصغيرة لصالح الشركات الأمريكية العملاقة، وخاصة تلك العاملة في الصناعات العسكرية والنفطية، ومؤخراً شركات التكنولوجيا.

من الطبيعي أن يكون للشركات الكبرى تأثير رئيسي في الحياة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة، إذا علمنا أن أكبر 1000 شركة في الولايات المتحدة مسؤولة عن 60% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ11 مليون شركة تجارية صغيرة.

كما أن أكبر 2000 شركة في أمريكا مسؤولة عن 40% من إجمالي الناتج القومي مقابل 22 مليون شركة تجارية صغيرة. وفي إحصائية قديمة في نهاية العام 2002، وقبل اجتياح العراق وما صاحبه من صرف كبير على السلاح وتنشيط لعمل الشركات العسكرية الأمريكية، كانت مبالغ عقود أكبر 5 شركات أمريكية مع وزارة الدفاع الأمريكية كالآتي: لوكهيد مارتن (23 مليار دولار)، بوينغ (24 مليار دولار)، نورثروب غرومان (3 مليارات دولار)، جنرال دينامكس (3 مليارات دولار)، يونايتد تكنولوجي (3.6 مليار دولار).

والعلاقة الخفية بين هذه الشركات وهرم السلطة في واشنطن قديمة. وقد شاعت في خمسينات القرن الماضي مقولة لـ”تشارلز ويلسون” الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز، كبرى شركات صناعة السيارات وقطع غيار الأسلحة: “ما هو في صالح جنرال موتورز هو في صالح أمريكا”.

 وتلخّص هذه المقولة المصالح المشتركة بين الشركات الصناعية الكبرى وبين مصالح الولايات المتحدة. والتدخلات العسكرية الأمريكية في مختلف أنحاء العالم هي جزء من استراتيجية هذه الشركات التي تستخدم القوة العسكرية الأمريكية لتحقيق هدفين:

 الأول تحريك مصانع وشركات الأسلحة الأمريكية عن طرق استهلاك السلاح في العمليات العسكرية، والثاني تحقيق أرباح للشركات المدنية الأمريكية التي تعمل على إعادة بناء ما هدمه الجيش الأمريكي، فتحقق أرباحاً طائلة تنعش الاقتصاد.

وعند الحديث عن المؤسسة العسكرية الأمريكية لا يخفى علينا أن هذه المؤسسة هي أكبر زبون لدى شركات إنتاج السلاح، التي تكون المؤسسة الصناعية العسكرية، ومن هذه الحقيقة نستطيع فهم معطيين: 

الأول: دور الجيش الأمريكي خارج بلاده بات يمثل محفّزاً مهماً للإنتاج الصناعي العسكري، ولعملية تصريف هذا الإنتاج في أسواق الجيوش الحليفة والمناطق الساخنة.

 والثاني هو أن قطاع التصنيع الحربي الأمريكي يعمل على توظيف مئات الألوف من الأمريكيين، ما يُسهم في تخفيف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن البطالة. وهناك عامل آخر هو تدخل الجيش الأمريكي (عسكرياً)، أو المؤسسات الأمنية والسياسية الأمريكية لصالح شركات النفط الأمريكية وحماية استثماراتها (وحقوقها) في بعض دول العالم الثالث عن طريق دعم انقلابات أو الضغط الاقتصادي والسياسي على أنظمة (مارقة).

والملاحظ أن هذه الشركات شكَّلت بصورة تراكمية جماعات ضغط فاعلة استطاعت أن تتغلغل في جميع مفاصل الدولة الأمريكية، ومؤسسات صنع القرار، وتجذّرت هناك. وهناك خلط بين الشركات الكبرى (supermajor) التي تعمل في مجال النفط، وبين الشركات المتعددة الجنسيات (multinationals) فالشركات متعددة الجنسية تعبير يطلق على الشركات الضخمة التي تشكّل شركات فرعية في عدد من البلدان الصناعية وتسويق منتجاتها.

 وتعمل الشركات الفرعية ضمن البلد الأجنبي، لكنها تحافظ على روابطها مع الشركة الأم. أي أن هذه الشركات التي ضاق السوق الداخلي بمنتجاتها، فيمتد نشاطها إلى خارج حدود بلدها الأصلي، فتنشئ فروعاً لشركات لها في بلدان عدة، وقد ظهرت في البداية الشركات الأوروبية كعابرة للقارات، وتبعتها الشركات الأمريكية، وخاصة تلك العاملة في مجال النفط.

ومن الصعوبة بمكان التفريق بين المصطلحين، وخاصة في الحالة الأمريكية، لكن الذي يهمّنا في هذه المساحة الشركات المنخرطة في العمل السياسي بجانب مهنتها الرئيسية، التجارة أو التعدين أو التصنيع.

 وللشركات الكبرى ثلاث خصائص رئيسية: 

الأول هو ضخامة حجم مبيعاتها، فشركة أكسون موبيل الأمريكية، مثلاً، حقّقت عام 1982 مبيعات تقدر 207 مليارات دولار.

 والثاني العدد الضخم للقوة العاملة بها، فشركة جنرال موتور لديها ما يقارب 800 ألف شخص يعملون بها.

 والثالث توسعها الكبير على مستوى العالم، فشركة IBM الأمريكية مثلاً كان لها فروع في أكثر من 80 بلداً قبل أن تستحوذ عليها شركة لينوفو الصينية. وكذلك الأمر بالنسبة لغالبية شركات التكنولوجيا والنفط حالياً.

يُطلق مصطلح شركة كبرى (supermajor) في الإعلام على أضخم 6 شركات نفط مملوكة للدولة في العالم، وهي شركات إكسون موبيل (أمريكية)، شل (هولندية)، بريتيش بتروليوم( BP بريطانية)، شيفرون (أمريكية)، كونوكو فليبس (أمريكية)، توتال (فرنسية)، وإيني (Eni) الإيطالية. وتعتبر شركات الإعلام والاتصالات والترفيه (العمالقة السبعة) وهي: بيرتلزمان Bertelsmann (ألمانية)، ونيوز كورب News Corp (أسترالية)، وسوني (يابانية)، ووالت ديزني Walt Disney (أمريكية)، وفيفندي ينيفيرسالvivendil universal (فرنسية)، وفياكوم (viacom أمريكية)، وأيه. أو. إل. تايم وورنر A.O.L (أمريكية). أيضاً شركات كبرى بحسابات رأس المال والانتشار العالمي.

كما دخلت على الخط خلال العقدين الماضيين شركات التكنولوجيا مثل مايكروسوفت وجوجل، وشركات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وويشات (Wechat)، وشركات التجارة الإلكترونية مثل أمازون وعلي بابا إلى القائمة، بعد تجاوز رأسمال هذه الشركات ميزانيات بعض الدول في إفريقيا وآسيا.

 والسؤال المطروح الآن هو مدى تأثير هذه الشركات على عملية صنع القرار المرتبط بالسياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الجديد وإدارته الديمقراطية. فالمعروف عن الديمقراطيين تركيزهم على تحسين أداء الاقتصاد واستخدامهم للقوة الناعمة وسلاح الاقتصاد، عوضاً عن القوة العسكرية التي يتميز بها الجمهوريون.

وإذا ما أردنا إسقاط هذه النظرية على إدارة بايدن  لتخمين التوجّهات الاقتصادية لإدارته التي لا تستطيع الفكاك من سيطرة شركات النفط والسلاح. فيمكننا التنبؤ بالضغوط التي ستمارسها شركات النفط والسلاح على الإدارة الديمقراطية الجديدة.

 ويمكن أن تكون هناك ضغوط لتسهيل صفقات سلاح لدول لا تحبذ إدارة بايدن دعمها، مثل السعودية المتورطة في حرب اليمن. أيضاً يمكن أن تدخل شركات النفط على خط الضغوط عن طريق استنفار لوبياتها للاستمرار في نفس مستوى الإنتاج النفطي أو عدم تخفيضه على أسوأ الفروض.

 وقد دخلت شركات النفط على سبيل المثال في المعركة الانتخابية خوفاً من قيام إدارة بايدن الديمقراطية بالضغط عليها لتخفيض إنتاجها الداخلي، الذي بلغ مستويات قياسية خلال فترة ترامب (وصل الإنتاج اليومي لمستوى 13 مليون برميل يومياً في نوفمبر 2019.)

فقد صوّرت الحملة الانتخابية لترامب الديمقراطي بايدن على أنه أسير الجناح اليساري للحزب الديمقراطي الذي سينهي حقبة من “الهيمنة (الأمريكية) على الطاقة” وصلت لمرحلة تصدير النفط.

 حيث قال نائب الرئيس مايك بنس، في سبتمبر/أيلول 2020، في خطاب له أثناء الحملة الانتخابية في بنسلفانيا: “يريد جو بايدن واليسار الراديكالي سحق قطاع الطاقة الأمريكي وسحق وظائف قطاع الطاقة الأمريكي”. لكن بايدن نفى المزاعم بأنه سيحظر التكسير الهيدروليكي (fracking)، وهي تكنولوجيا مكّنت ثورة النفط الصخري وجعلت الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط والغاز في العالم.

 حيث قال بايدن خلال اجتماع أخير مع الناخبين في بطرسبرغ، بالقرب من قلب صناعة الغاز الصخري في ولاية بنسلفانيا المتأرجحة: “يجب أن يستمر التكسير الهيدروليكي لأننا بحاجة إلى انتقال. لا يوجد أي سبب منطقي للتخلص من التكسير الهيدروليكي في الوقت الحالي”.

وللتدليل على نفوذ هذه الشركات وتأثيرها الكبير على الإدارات، جمهورية كانت أم ديمقراطية، يكفي الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت تنتج 5 ملايين برميل فقط يومياً، عندما فاز الديمقراطي أوباما بالبيت الأبيض في العام 2008.

 وبحلول العام 2015 ارتفع الإنتاج إلى 9.5 مليون برميل قبل أن ينخفض في عام 2016، حتى مع محاولات أوباما زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، ومحاولاته إيقاف خط أنابيب مثير للجدل لنقل النفط الكندي إلى داخل أراضي الولايات المتحدة.

 هذه الأمثلة توضّح قوة لوبي شركات النفط والسلاح على متخذ القرار في واشنطن، وتشير إلى أن السياسات الأمريكية فيما يتعلّق بالنفط والسلاح وصناعة التكنولوجيا لن تتغير كثيراً في جوهرها، لكنها قد تتغير في بعض ملامحها مثل العلاقات مع إيران وفنزويلا.

 كما ستشهد فترة الديمقراطيين تشدداً في بيع السلاح لمناطق ودول مثيرة للجدل، لكن هذه المبيعات لن تتوقف، وعند شركتي بوينغ وإكسون موبيل الخبر اليقين. 

أحمد زمراوي –عربي بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى