تحليل الاستراتيجيةرئيسي

خيارات التعامل مع تعاظم النفوذ الإيراني الإقليمي وحتمية الصدام

أحدث تصريح قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني الجنرال علي حاجي زاده بأن الصواريخ في أيدي كل من “حزب الله” و”حماس” في لبنان وقطاع غزة هي جزء من الجبهة الأمامية لترسانة بلاده الصاروخية، ضجّة لدى جهات عديدة، لكنه لم يكشف شيئاً جديداً لمعظم المسؤولين والمحللين والخبراء ممن يتابعون شؤون المنطقة. فلقد توسع نفوذ إيران توسعاً ملحوظاً خلال العقدين الماضيين، وتحديداً بكمية الأسلحة ونوعيتها التي نقلتها الى الميليشيات التي أنشأتها وأنفقت عليها خلال السنين الماضية 17 مليار دولار، بحسب تصريح المساعد التنسيقي في الحرس الثوري الإيراني محمد رضا نقدي.

لقد تمكّنت إيران من توسيع نفوذها العسكري والسياسي في المنطقة تحت أنظار خصومها، وحتى برضاهم ومساعدتهم أحياناً، وهم اليوم يواجهون تحدّيات كبيرة في كيفية احتواء هذا التمدد وإنهائه من دون التّسبب بحروب أهلية أو حرب إقليمية. 

فلقد تمكّنت إيران عبر انتهاز ثغرات في سياسات القوى العظمى ودول المنطقة من تنفيذ استراتيجية تصدير الثورة التي تهدف الى توسيع نفوذها في المنطقة بهدف جعلها القوة الإقليمية الأولى في الشرق الأوسط، كخطوة باتجاه أن تكون قوة عالمية. وتمكنت إيران من إخفاء تحركاتها التوسعية بدهاء كبير، إذ دخلت لبنان تحت ستار “دعم المقاومة ضد إسرائيل” الى أن تحوّلت المقاومة فيه قوة تسيطر على معظم مفاصل الحكم في الدولة وتلعب دوراً عابراً للحدود. وتم ذلك بمعرفة جهات عربية وغربية عدة، ودعمها قبل أن يزول القناع عن هوية ما يسمى بـ”المقاومة” في لبنان متمثلة بـ”حزب الله”، والتي أعلن أمينها العام بصراحة حجم الولاء والارتباط العضوي والعقائدي بالنظام الإيراني.

كما في لبنان، كان الأمر في العراق، حيث تسلّل الحرس الثوري الإيراني تحت ستار إنشاء ميليشيات لدعم السلطة لوقف اجتياح “داعش” الأراضي العراقية، أي “لمقاومة الإرهاب”. وعمدت إيران الى تشكيل مجموعة من الميليشيات تحت أنظار الولايات المتحدة الأميركية، وحتى بمساعدتها خلال إدارة الرئيس باراك أوباما. فلقد تسلمت ميليشيات الحشد الشعبي كميات كبيرة من الأسلحة الأميركية التي كانت مرسلة الى الجيش العراقي من دون معارضة واشنطن التي كانت تعتبر محاربة “داعش” أولوية تتعدّى أي شيء آخر. وكانت النتيجة أن ميليشيات الحشد الشعبي التابعة لإيران باتت قوة عسكرية تنافس القوات النظامية العراقية وتتمتع بشرعية وتملك أحزاباً سياسية لها مقاعد في البرلمان وتؤثر في القرار السياسي لبغداد. 

أما في سوريا، فلقد دخل الحرس الثوري الإيراني بدعوة من النظام السوري لإنقاذه من ضربات المعارضة التي وصلت الى مشارف العاصمة وسيطرت على معظم المحافظات. وهنا برز دور واسم الجنرال قاسم سليماني الذي تمكّن من إقناع القيادة الروسية بالتدخل عسكرياً لإنقاذ النظام، وهذا ما كان. وبما أن عدد المواطنين الشيعة في سوريا قليل جداً، اضطرّت طهران لاستيراد مقاتلين شيعة من أفغانستان وباكستان لتشكيل ميليشيات في سوريا تضم أيضاً مجموعات كانت تؤيد النظام. وطبعاً لمقاتلي الحشد الشعبي و”حزب الله” وجود مهم في سوريا يساعد طهران على تثبيت نفوذها هناك.

الدخول الإيراني الساحة الفلسطينية كان عبر “حزب الله”، وبدأ خلال فترة إبعاد عناصر “حماس” الى منطقة الحدود اللبنانية في تسعينات القرن الماضي، ومن ثم استمر بعد عودتهم الى غزة تحت أنظار إسرائيل التي لم تمانع نموّ قدرات “حماس” عسكرياً لأنها كانت تضعف السلطة الفلسطينية. وأدى تعاظم قدرات “حماس” نتيجة الدعم الإيراني المالي والعسكري الى تمكّنها من السيطرة على قطاع غزة، بما فيه مؤسسات السلطة الفلسطينية هناك، ما أوجد شرخاً فلسطينياً داخلياً لا يزال مستمراً حتى هذا اليوم، وهو ما ساعد إسرائيل على تحقيق مآربها والتنصل من اتفاقيات السلام. وطبعاً كان لذلك ثمن بدأت تشعر به إسرائيل الآن بقوة بعدما باتت الصواريخ الإيرانية تحيط بها من الجنوب والشمال. 

قدرة إيران على انتهاز مناطق الضعف في الدول المجاورة ساعدتها على استغلال الصراع الداخلي في اليمن لتبني علاقات مع الحركة الحوثية بعد فترة من انطلاقها. وسمحت التطورات التي شهدتها الساحة اليمنية خلال فترة “الربيع العربي” لإيران بأن تعزّز وجودها الى أن حدث الانقلاب الحوثي الذي أعلن عدد من المسؤولين الإيرانيين بعده انضمام صنعاء الى العواصم العربية التي تسيطر طهران عليها. ويشكل اليمن بعداً جغرافياً استراتيجياً مهماً لإيران، كونه يقع على حدود السعودية الجنوبية المباشرة ويشرف على مضيق باب المندب. وباتت إيران اليوم قادرة على تهديد الملاحة الدولية في مضيقي هرمز وباب المندب، واستهداف الأراضي السعودية (وحتى غيرها من دول الخليج) من اليمن أو حتى العراق. ولقد كشفت بقايا الصواريخ البالستية التي أطلقت على السعودية وشحنات الأسلحة التي تم اعتراضها قرب السواحل اليمنية حجم الدعم العسكري الإيراني للحوثيين، وهو أمر لم تكن معظم الدول الغربية تعترف به مسبقاً. وها هي اليوم الصواريخ الجوالة والألغام الإيرانية تهدد الملاحة الدولية في ميناء باب المندب والبحر الأحمر. 

ولم تأخذ أميركا أو الدول الغربية أي مبادرة لوقف الزحف الإيراني وانتشاره في المنطقة. فلقد تم وقف التحركات الإيرانية داخل البحرين والسعودية والكويت من جانب القوى الأمنية لهذه الدول وتفعيل منظومة مجلس التعاون الخليجي العسكرية. كما أن العمليات العسكرية للتحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن انطلقت من دون دعم أو مباركة أميركية – أوروبية. كما أن التحركات المضادة لإيران في كل من العراق وسوريا ولبنان بدأت من جهات عربية قبل أن تدخل دول أوروبية وواشنطن على الخط لاحقاً بعد إدراك حجم التأثير السلبي للنفوذ الإيراني، بخاصة على مصالحها. تجد الدول العربية والغربية نفسها اليوم أمام معضلة السيطرة الإيرانية على مناطق استراتيجية وحيوية في الشرق الأوسط. فهناك ثلاثة خيارات لإنهاء الوجود الإيراني في هذه الدول العربية: 

• إما دفع القوى المحلية وبمساعدة القوى النظامية المحلية لاقتلاح هذه المجموعات والميليشيات بالقوة، الأمر الذي سيؤدي الى حرب أهلية غير معروفة النتائج. 

• المساعدة على إيجاد حالات شعبية رافضة لهذه المجموعات محلياً لإفقادها البيئة الداخلية الداعمة وتحويلها أحزاباً سياسية فقط من دون أي دور عسكري، الأمر الذي يتطلب جهداً جماعياً عربياً ودولياً، ويحتاج الى معادلة خاصة تصلح في دول مثل العراق حيث هناك قوى شيعية سياسية كبيرة ترفض الهيمنة الإيرانية، وهذا الأمر مفقود في لبنان حيث النزاع المذهبي – الطائفي جمع غالبية الشيعة تحت نفوذ “حزب الله”. 

• المواجهة مع إيران مباشرة، إما سياسياً أو عسكرياً أو بكلتيهما. طهران هي مصدر القوة لهذه الميليشيات في هذه الدول، وبالتالي تحييدها عسكرياً أو سياسياً سيؤدي الى إضعاف هذه الميليشيات وإنهاء دورها. المواجهة العسكرية مع إيران تعني حرباً ستشمل دول بلاد الشام والخليج العربي كافة، بالإضافة الى القوى العظمى التي تملك مصالح استراتيجية وأمنية في هذه المنطقة. وعليه، يبقى خيار التفاوض للوصول الى حل سياسي الأكثر أماناً. ولكن ما هو الثمن الذي ستطلبه إيران مقابل تخلّيها عن هذا الحجم الكبير من النفوذ والقوة التي تتمتع بها اليوم؟

تقف إيران، كما دول المنطقة، أمام خيارات مصيرية كبيرة اليوم، بخاصة مع تسارع التطورات على الساحتين الإقليمية والدولية. فلا يمكن للدول العربية أن ترضى ببقاء الهيمنة الإيرانية على أجزاء مهمة من الوطن العربي بعدما باتت تهدد أمنها القومي، ولن تقبل إسرائيل بامتلاك إيران سلاحاً نووياً ونشر أسلحة متطورة على حدودها، ولا تظهر إيران حتى الآن أي مؤشرات الى استعدادها للتخلي عن أي من مكتسباتها في المنطقة. ولادة أي حل أو بداية لحل باتت تتطلب حدثاً كبيراً، إما سياسياً أو عسكرياً. فأيّهما سيسبق الآخر؟   

رياض قهوجي-النهار 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى