العالمرئيسي

تركيا ومصر: مرحلة جديدة عنوانها التهدئة

أعادت إلى الواجهة تصريحات لوزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو عن علاقات بلاده مع مصر، نقاش احتمالات تحسن العلاقات وتطورها بين القوتين الإقليميتين، في ظل معطيات ومتغيرات عديدة في العالم والمنطقة.
التصريحات
ففي 30 ديسمبر/كانون الأول الفائت، قال جاويش أوغلو إن علاقات بلاده مع مصر ليست مقطوعة؛ بل هناك “تواصل على مستوى جهاز الاستخبارات بهدف تحسين العلاقات” بين الجانبين، وكذلك “حوار على مستوى وزارتي الخارجية”. مؤكدا أن الجانبين يحاولان الالتزام بمبدأ عدم التضارب (والإضرار ببضعهما البعض) في المحافل الدولية.
وضرب جاويش أوغلو أمثلة على التزام الجانبين بهذا المبدأ، حيث “رفعت مصر بعض الاعتراضات في اجتماع منظمة التعاون الإسلامي الأخير”، بينما خَطَتْ تركيا “بعض الخطوات الإيجابية على صعيد العلاقات مع حلف شمال الأطلسي”.
وأكد الوزير أن هناك تواصلا كذلك بين الطرفين من خلال ممثليتي البلدين في كل من أنقرة والقاهرة، وأنه التقى نظيره المصري في أحد اللقاءات الدولية العام الفائت، واتفقا على “العمل على إيجاد خارطة طريق” بينهما، متفائلا بأن الأمور “ستكون على ما يرام مع الوقت”.
خلافات واختلافات
مثل كثير من القوى الإقليمية المتجاورة، حكمت البلدين على مدى عشرات السنين حالة تنافس وعلاقات فاترة، لا سيما في حقبة الحرب الباردة، وقد أوشكا على الدخول في حرب مباشرة في فترة “الجمهورية العربية المتحدة” عام 1958.
في السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية في تركيا، توطدت العلاقات أكثر بين البلدين؛ لكنها لم تصل يوما لدرجة التعاون الوثيق فضلا عن التحالف. وحدها الثورات العربية قدمت احتمالا من هذا النوع، حيث راهنت تركيا على تحالف مع مصر أسماه وزير الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو “حلف الديمقراطية” لبناء نظام إقليمي جديد، ولذلك كان عبدالله غل أول رئيس يزور مصر بعد الثورة في 2011، قبل أن يتبعه رئيس الوزراء حينها رجب طيب أردوغان في العام التالي.
بيد أن انقلاب 3 يوليو/تموز في مصر أعاد العلاقات إلى نقطة الصفر؛ بل إلى أسوأ مما كانت عليه في السابق. أدانت تركيا الانقلاب ورفضت الاعتراف بالنظام، الذي نشأ بعده لأسباب كثيرة بمقدمتها تجربتها الذاتية مع الانقلابات، لا سيما أنها كانت تحاكم قيادات عسكرية شاركت في انقلابَيْ 1980 و1997، أو خططت لانقلابات أخرى لاحقا. في المقابل، شنّت القاهرة حملات إعلامية لا تتوقف على أنقرة، بعدِّها تتعاون مع “المعارضة الإخوانية” للإساءة لها والإضرار بها.
ألغت مصر اتفاقية الرورو للملاحة البحرية، وتراجعت العلاقات التجارية، وانقطعت العلاقات الدبلوماسية أو كادت. لاحقا باتت القاهرة ركنا رئيسا ضمن محور إقليمي مواجه لأنقرة، ومناكف لها في عدد من الملفات الإقليمية، من ليبيا إلى شرق المتوسط، ومن سوريا إلى الأزمة الخليجية، وخصوصا منتدى غاز شرق المتوسط، الذي حاول تقسيم كعكة الثروات في المنطقة متجاهلا حقوق تركيا.
اليوم، وبعد أكثر من 7 سنوات على الانقلاب في مصر، تغير الكثير في المشهد الإقليمي والدولي، وكذلك في الأوضاع الداخلية لكلا الدولتين.
ففي المقام الأول، تخطى النظام المصري عقدة المشروعية، وبات يحظى بالاعتراف والقبول على الساحتين الإقليمية والدولية بعد أن تراجعت التحديات الداخلية أمامه بشكل ملحوظ. في المقابل، تجاوز حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان العديد من الأزمات والتحديات الخارجية والداخلية؛ بما في ذلك الانقلاب الفاشل في 2016، وخرج منها أقوى.
ما يعني أن الجانبين يواجهان اليوم تحديات مختلفة، في مقدمتها التحدي الاقتصادي لا سيما في ظل جائحة كورونا، وكذلك يتعاملان مع معطيات إقليمية ودولية مختلفة. ولعل ذلك ما يفسر تراجع حدة التراشقات بينهما من جهة، وحصول لقاءات في السنوات القليلة الأخيرة على المستويات الاستخبارية والتجارية.
المستقبل
مؤخرا، يشكل انتخاب بايدن رئيسا للولايات المتحدة الأميركية عاملا يدفع نحو تقارب الطرفين، أو على أقل تقدير تخفيف حدة التوتر بينهما. إذ ليس سرا أن الطرفين كانا يفضلان إعادة انتخاب ترامب، كل لأسبابه الخاصة، وبالتالي باتا يعملان على جملة خطوات داخلية وخارجية استعدادا للمرحلة “الديمقراطية” المقبلة مع ساكن المكتب البيضاوي الجديد.
كما أن العديد من التطورات الإقليمية أصبحت حافزا لأنقرة والقاهرة لإعادة التقييم والقراءة والتوجهات في بعض الملفات. فالأزمة الليبية باتت تهديدا أكبر لمصر، لا سيما بعد إخفاق رهانها على قدرة اللواء خليفة حفتر على حسم معركة طرابلس، وبعد التدخل التركي الذي قلب المعادلة لصالح حكومة الوفاق الوطني. كما أن مسار التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وإن لم يتعارض بالضرورة مع مسار النظام المصري؛ إلا أنه يهدد بإضعاف دور مصر الإقليمي.
“تبدو تحالفات القاهرة الإقليمية -لا سيما مع دولة الإمارات العربية المتحدة- عائقا كبيرا أمام أي تقدم منها باتجاه الحوار مع أنقرة، كما أن الأخيرة ترى بعض متطلبات التقارب مع القاهرة أو بعض مطالبها صعبة الإيفاء على المدى المنظور”
في المقابل، يشكل ملف شرق المتوسط أولوية السياسة الخارجية التركية حاليا، من باب التنافس الإقليمي وأمن الطاقة على حد سواء. ولذلك تسعى أنقرة لإيجاد شركاء و/أو حلفاء لها من دول حوض المتوسط من جهة، وإضعاف أو تفتيت التحالف الإقليمي المواجه لها فيه من جهة أخرى.
ومن هنا أتت فكرة ترسيم الحدود البحرية مع مصر، وهو عرض تركي قديم ما زال قائما على طاولة مصر، التي يصبُّ ذلك في مصلحتها حتما. وهو أيضا ما يفسِّر التصريحات التركية الإيجابية بخصوص متطلبات الأمن القومي المصري في ليبيا.
في المجمل، ثمة تطورات محلية وإقليمية ودولية تدفع القوتين الإقليميتين لتخفيف حدة التوتر بينهما، وفتح مسارات الحوار أكثر من ذي قبل؛ لكن ذلك لا يعني عدم وجود تحديات وعقبات. بالنسبة للقاهرة، ثمة رغبة في اعتراف تركي صريح بالنظام القائم، وبالنسبة لأنقرة، هناك صعوبة في تجاوز الأوضاع المحلية في مصر ورغبة في التعاون في ملفي شرق المتوسط وليبيا.
أكثر من ذلك، تبدو تحالفات القاهرة الإقليمية -لا سيما مع دولة الإمارات العربية المتحدة- عائقا كبيرا أمام أي تقدم منها باتجاه الحوار مع أنقرة، كما أن الأخيرة ترى بعض متطلبات التقارب مع القاهرة أو بعض مطالبها صعبة الإيفاء على المدى المنظور.
يعني كل ما سبق صعوبة التقارب الكبير بين الجانبين لأسباب كثيرة؛ لكنه لا يعني استحالة الحوار وتدوير زوايا الخلاف. فمسألة نقاش شرعية النظام المصري باتت من الماضي حتى من زاوية تركية، فقد استلمت أنقرة الرئاسة الدورية لمنظمة التعاون الإسلامي قبل سنوات من القاهرة، ثم توالت الحوارات واللقاءات، وحتى بعض الزيارات منخفضة المستوى، ثم أتت التصريحات الأخيرة؛ لتؤكد وجود حوارات دبلوماسية على مستوى وزارتي الخارجية، وهذا ليس تصرف من لا يعترف بالطرف الآخر.
في المقابل، هناك مصالح حقيقية متبدّية للطرفين من التقارب، لا سيما في ملفي شرق المتوسط وليبيا. إن اتفاق البلدين على ترسيم الحدود البحرية -إن حصل- سيكون مكسبا كبيرا لكليهما؛ لتركيا التي ستكسب شريكا إضافيا غير مقرٍّ بالرؤية اليونانية في شرق المتوسط، ومساحات قد تكون ثرية بالغاز، وخلخلة لتماسك التحالف المواجه لها. ولمصر التي ستكسب مساحات وثروات، وكذلك عودتها بوابة لنقل الغاز لأوروبا كما كانت تخطط قبل أن تسعى تل أبيب لذلك الدور.
وفي الأزمة الليبية، وبعد انهيار فكرة الحسم العسكري، وبالتالي المواجهة غير المباشرة بينهما، ثمة فرصة أمام الطرفين للمساهمة في حل سياسي يضمن استقرارا لليبيا، ودورا لكليهما في مستقبلها. لا سيما أن القاهرة قد انفتحت مؤخرا على حكومة الوفاق من خلال وفدها، الذي زار طرابلس، كما أن تركيا تتواصل مؤخرا مع قوى الشرق الليبي، واستقبلت الممثل الخاص لعقيلة صالح.
في الخلاصة، تدفع جملة المصالح كلا من تركيا ومصر إلى الحوار والتهدئة وفتح مسارات التعاون، بينما تبعدهما الاصطفافات الإقليمية والمواقف المسبقة من بعضهما البعض.
ولذلك، فليس من المرجح حدوث اختراق كبير على صعيد العلاقات بينهما في المستقبل القريب؛ لكن من الواضح أنهما يخطان مسارا متدرجا هادئا، قد يؤدي في المدى المتوسط إلى مسارات تعاون على المستويات الاقتصادية والتجارية والوزارية، وإن لم تشمل مستوى رئاستي الجمهورية.
بيد أن ذلك يبقى مسارا هشا قابلا دائما للانهيار في ظل حالة الاصطفاف الإقليمي القائمة، بينما يمكن أن يغذيه ويقويه أي تطور يغير من حالة الاستقطاب الحالية. ووحدها الأحداث في الأسابيع المقبلة ستثبت من الأقوى حضورا في السياسات الإقليمية، المصالح الإستراتيجية أم المواقف والاصطفافات المسبقة.
سعيد الحاج- الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى