مع إعطاء دور كبير للموساد في صنع القرار بالداخل الإسرائيلي أثيرت بعض التساؤلات حول ما يمثله من ثقل سياسي في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن هذا الدور محل جدال سياسي واستخباراتي مرتبط بما يجري ليس في إسرائيل وحدها، إنما أيضاً باعتماد غالبية دول العالم على أجهزة الاستخبارات والجيوش لمواجهة التحديات والمخاطر الحقيقية التي لا تتعلق فقط بأزمة كورونا، إنما بما هو قادم من عراقيل تمس دول العالم.
وراء الكواليس
يجري في التوقيت الراهن داخل الموساد أكبر حركة تغييرات تشمل المواقع القيادية، وجزء منها مرتبط بتغيير مهام بعض المحطات الحية في عدد من الدول. والأمر ليس مقصوراً فقط على مسألة وجود رئيس الجهاز يوسي كوهين أو بتقاعده الرسمي، في ظل احتمالات الإبقاء عليه في موقع آخر من دون الإعلان عنه، ومن ثمّ فإن التقاعد المحتمل لكوهين يفرض تغييرات أخرى مقابلة متعلقة أساساً بالقيادات الأخرى التي عملت إلى جواره سنوات طويلة، وكان لها دور فعّال.
وثبت جلياً أن خبراء الموساد في الملفات والقطاعات الأكثر أهمية في الإقليم هم الأهم من خبراء السياسة والدبلوماسية، بالتالي كان العمل على توسيع نطاق دور قيادات الجهاز وضباط عملياته، وهو ما سيمثل مواجهة ستحدث مع الخارجية وعلى المستوى السياسي في إسرائيل، خصوصاً أن التمثيل الدبلوماسي الإسرائيلي تعرض في السنوات الأخيرة لحالة من التجريف، وأطيح كثير من المتخصصين الذين انضموا لمركزي بيغين – السادات وهرتسليا للسياسات العامة، إضافة إلى مركز دراسات الأمن القومي، وبدأوا في التحليل السياسي والاستراتيجي.
كما يميل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى تصعيد دور أجهزة المعلومات، لكن لا تربطه بقيادات الاستخبارات العسكرية “أمان” أي روابط سياسية، وقد حرصت الأخيرة على الابتعاد عن المشهد السياسي وأداء الدور النمطي لجهاز الاستخبارات على رغم المواجهات الكبيرة التي جرت في الفترة الأخيرة، وفي ظل أزمة أجهزة المعلومات بالكامل في إسرائيل، التي تعاني حالة التشرذم والانقسام ومسعى كل جهاز للعمل بمفرده، وهو ما أثر على سبيل المثال في إدارة ملف كورونا، وسيلقي بتبعاته على التعامل في ملف اتفاقات السلام وتحقيق إنجازات حقيقية في الإقليم، خصوصاً أن حالة عدم الاستقرار في إسرائيل والذهاب إلى انتخابات رابعة ستؤدي إلى مزيد من التداعيات السلبية على صنع القرار السياسي، وقد تعرقل بالفعل خطوات الإنجاز في ملف الاتفاقات الجديدة مع الدول العربية.
وفي الوقت ذاته يراقب مجمع الاستخبارات العام في إسرائيل “موساد لي” ما يجري وينسق ويتابع، باعتباره الأعلى فوق كل الأجهزة. لكن، رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو دخل في مواجهات غير معلنة مع قياداته، وحاول فرض استراتيجية المواجهة، التي لم تحسم بعد. وستطاول أي تغييرات جديدة ليس في الموساد إنما في سائر الأجهزة الأخرى التي ترى نتنياهو شخصية غير جديرة بالتولي والاستمرار، وأنه شخص متهم في قضايا فساد، وعلى رغم إدانته فإن إسرائيل ليست ملزمة بالبقاء في دائرة حكمه، بالتالي فإن قادة الأجهزة يتحركون في دائرة من الخيارات الكبيرة على رغم كل الضغوط التي تتعرض لها، ويعمل نتنياهو على الاستثمار فيها.
تياران يتصارعان
إن الذهاب إلى فرض الاستقرار داخل الموساد يتطلب حسم المشهد الراهن، الذي يستند إلى وجود تيارين: الأول يدعو إلى تمجيد دور أجهزة الاستخبارات، خصوصاً الموساد والخروج للعالم وممارسة دور معلن وعدم البقاء في دائرة الظل وإنتاج روايات ومسلسلات تعظم من دور الموساد الذي يحارب على كل الجبهات، ويقوم بدور خدمي حماية لأمن إسرائيل، ويبرم صفقات السلاح والدواء، ويقوم بكل الأدوار، بالتالي فإن إعلان أسماء قيادات الموساد مهم لرفع الحالة المعنوية للشعب الإسرائيلي الذي يعاني عدم الاستقرار، ويعيش حالة سياسية واقتصادية فيها انفصام كبير، فالحكومة تخاطبه بتحقيق إنجازات حقيقية لا يجدها على الأرض، بالتالي تظهر أجهزة الاستخبارات على مختلف مهامها لتوجه وتقود وتملأ الفراغ السياسي والاقتصادي المفقود في ظل أداء حكومي باهت وصراع الأحزاب المستمر.
والثاني الذي يدعو بالفعل للعودة إلى الدخول في الجدران، والكف عن ممارسة الدور التدخلي المُكلف في الساحة السياسية، وترك الأمر للمستوى السياسي ليقرر بدلاً من الصراع على الأولويات، خصوصاً أن الجهاز يعيد تحديد دوره في مراكز صنع القرار، ومن ثمَّ لا يجب التوقف عند طرح الأسماء أو تغيير قيادات، لأنه ليس من مصلحة الموساد الاستمرار في هذا الصراع الجديد.
لكن، هذا التيار لا يمانع في استمرار تمجيد الجهاز إعلامياً وسياسياً واستعادة دور المنتصر دائماً لردع الأطراف المقابلة على كل المستويات في ظل استمرار الصراع الأكبر مع إيران واحتمال تعرض إسرائيل لمخاطر جديدة قد تؤدي لتبعات خطيرة على أمن إسرائيل القومي في المدى القصير.
لهذا، فالقضية ليست فقط مشكلات وأزمات وصراعات داخل الجهاز الذي شهد أزمات حقيقية في سنوات سابقة، وشهد حالات من التمرد والعصيان والدخول في صراع على المستوى السياسي، بل إن عمل الموساد في الفترة المقبلة وتحديات ما تواجهه إسرائيل يجيب مباشرة عما سيكون على رأس الأولويات المطروحة له.
مهام 2021
يعتاد الموساد سنوياً على أن يقوم بتقدير موقف يرصد فيه أهم المخاطر على أمن إسرائيل، وهو ما يمكن أن يُسهم في معرفة كيف يفكّر قادة الجهاز في المديين القصير والطويل الأجل، فمن المتوقع استمرار خيار التهدئة مع قطاع غزة وعدم الصدام مع الفصائل إلى حين التوصل لنظام دفاعي كامل يعرف باسم السماء الحمراء، بعد أن انتهى عصر مقلاع داوود والقبة الحديدية.
وإلى حين التوصل لهذا النظام، فالتهدئة مستمرة مع العمل على تطوير ما جرى الاتفاق بشأنه مع الدول التي أبرمت اتفاقات سلام وتسوية مع إسرائيل وتنفيذ ما جرى بشأنه، خصوصاً خطوط الغاز والتجارة الخارجية وربط الموانئ وإنشاء محطة التسييل في حيفا وبدء ربط المجمعات الطبية والعلمية بين الدول العربية وإسرائيل والشروع في تنفيذ اتفاقات الاستثمار مع سرعة إنجاز مسار السلام، وتفعيل دور المغرب في الفترة المقبلة ليس على المستوى الثنائي فقط، إنما في الإقليم بأكمله، وهناك مقترحات أمنية واستراتيجية من قبل الموساد تشير إلى أن المغرب سيكون بؤرة الأحداث.
وهو ما يؤكد أن 2021 سيكون عام الإنجازات للموساد للقفز على ما يجري من وضع راهن، وربما محاولة إغراق الإعلام العربي بتفاصيل صحافية معينة ومراقبة رد الفعل العربي على ما يحدث.
لا يهم إذن أن يستمر الانقسام، وهو حقيقي داخل الموساد بل وفي أجهزة المعلومات الأخرى، أو لا يستمر في ظل حالة عدم الاستقرار داخل إسرائيل بأكملها، فما يهم كيف يخطط قادة الموساد لخطف الدولة ومحاولة تطويعها والعمل على تحقيق نجاحات أمنية وسياسية واستراتيجية ليس تجاه الدول التي تشكل تهديداً على أمن إسرائيل فحسب، بل تجاه كل دول الإقليم بأكمله، وهو ما يتطلب إعادة متابعة ما يخطط فعلياً تجاه الدول العربية ومحاولة فرض المصالح الإسرائيلية أولاً وأخيراً.
الخلاصة
تؤكد التقييمات السياسية والاستراتيجية للموساد التي تطرح عبر رؤى متعددة لاستشراف ما هو قادم، أن الخروج من المأزق الراهن لأزمة أجهزة المعلومات يتطلب بالفعل تصدير الأزمة للخارج، والخروج إلى تحقيق إنجازات تعيد تقديم الموساد بشكل أكبر.
لهذا، فإن الموساد قد يعمد لنشر أكبر قدر من الأخبار “الملونة” عما يجري بهدف تشتيت الأنظار عما يحدث بالفعل من مخططات الإنجازات المستهدفة في العام الجديد، وهو ما يشير إلى أن الموساد سيبقى في صدارة المشهد بصرف النظر عن الخلافات التي لن تحسم بسهولة. ومن المؤكد أن الأمر سيكون لصالح الجهاز على رغم كل ما يجري، لكن سيكون الأمر مكلفاً للغاية على إسرائيل بأكملها، وسيمتد من المستوى السياسي للأمني إلى الاستراتيجي.
طارق فهمي- كاتب وأكاديمي