مخطئ من يظن أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ينفرد في هندسة السياسات المناهضة لتركيا، فعلى المسرح نفسه يقف لاعبون آخرون يعزفون على الوتر ذاته، غير آبهين بأن ما يقدمونه لا يطرب، بل يحدث تشويشا وضجيجا لا يروق كثيرين.
فمع بدء قمة الاتحاد الأوروبي في 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أعلن الرئيس الاشتراكي السابق لفرنسا فرانسوا أولاند، دعمه الكامل لماكرون وحكومته في السياسات المناهضة لتركيا.
وآنذاك، قال أولاند عبر التلفزيون الرسمي “فرانس 2″، إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أدلى بتصريحات ضد ماكرون في أكثر من مناسبة. كما أن الأنشطة التركية في سوريا، وأرمينيا، وليبيا واليونان “واضحة للعيان”.
وأضاف: “تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو). لقد ذكرت عدة مرات عندما كنت في منصب رئيس فرنسا، إذا قام رئيس عضو في الحلف بإهانة رئيس دولة عضو أخرى، فيجب وقتها وضع حد لهذا الرئيس. اليوم هناك اجتماع لقادة الاتحاد الأوروبي. ستكون هناك عقوبات على تركيا”.
ولا شك في أن التصريحات التي أدلى بها أولاند، تظهر الروح العدائية الموجودة في فرنسا ضد تركيا، هذه الروح التي انعكست على ملفات حيال المشاكل مع اليونان وقبرص، وكذلك التطورات التي تشهدها ليبيا وسوريا وأرمينيا.
فخلال عمليات “غصن الزيتون” التي أجراها الجيش التركي ضد التنظيمات الإرهابية شمالي سوريا، قالت صحيفة لوموند: “أي نوع من الحلفاء في الناتو هي تركيا. إن أنقرة تستهدف حلفاءنا (منظمة “ي ب ك” الإرهابية) شمال سوريا”.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن مثل هذا الدعم المفتوح للمنظمات الإرهابية، الساذج لدرجة السخرية من العقل البشري، يشكل نهجًا كلاسيكيًا في السياسة الخارجية الفرنسية.
ولكن السياسة الفرنسية المناهضة لتركيا واضحة للعيان، فخلال قمة الاتحاد الأوروبي ببروكسل بين 10 ـ 11 ديسمبر الجاري، حرصت باريس على إظهار تلك السياسة، غير آبهة بالانقسامات التي تحدثها داخل البيت الأوروبي.
ونقلت صحيفة “لوموند” الفرنسية خبر موافقة قادة الاتحاد على فرض عقوبات ضد أنقرة تحت عنوان “المنقسمون الـ 27 يوافقون على عقوبات بالحد الأدنى ضد تركيا”، مشيرة أن إجراءات أشد ضد أنقرة تم تأجيلها بناءً على طلب ألمانيا.
وذكرت الصحيفة في خبرها أن المجر وبلغاريا وإسبانيا وإيطاليا ومالطا لا تريد تعريض علاقاتها التجارية الجيدة مع أنقرة للخطر، لذلك فقد انتهجت هذه الدول موقفًا “حذرًا” إلى جانب ألمانيا.
وزعمت الصحيفة أن فرنسا “شوكة في حلق أردوغان” على حد وصفها، وادعت أن باريس تدافع عن سيادة واستقرار قبرص واليونان، وأن الدور التركي بالشرق الأوسط وليبيا وقره باغ، “يساهم في زعزعة استقرار المنطقة”.
ـ تناقضات الموقف الفرنسي
كما تطرقت “لوموند”، التي بلغت ذروة شهرتها خلال فترة رئاسة ماكرون، إلى قضايا مليئة بالتناقضات، وملفات سياسية مناهضة لتركيا لا يمكن قبولها من قبل أنقرة بأي حال.
التناقض الأول هو دون شك إصرار فرنسا على أن تكون داعمة لموقف اليونان وقبرص الجنوبية و”مدافعة” عمّا تصفه بـ”الحقوق السيادية” لهذين البلدين، بدلًا من أن تكون وسيطًا في حل المشاكل مع اليونان.
وكما حدث في القمة الأوروبية الأخيرة، تعمل فرنسا على إقحام الاتحاد الأوروبي بمشاكل أنقرة وأثينا، تمامًا كما طلب رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميكوتاكيس، الذي تفاخر بتحويلها إلى مشكلة أوروبية تركية.
ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن هذه السياسة لا تمتلك فرصًا للنجاح، ليس فقط لأنها تسبب انقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضًا لأن مشاكل السيادة تكمن في جذور المشاكل التركية اليونانية.
ففرنسا، الساعية لتشويه صورة تركيا على خلفية دفاع الأخيرة عن حقوقها السيادية في بحر إيجة وقبرص، وإظهار هذه المشكلة كما لو أنها بسبب الرئيس أردوغان، تدرك أن هذه المشكلة موجودة منذ عقود.
كما تدرك باريس أن طريقة التعامل مع هذه المشكلة لن تتغير بتغير الحزب الحاكم في تركيا، وذلك ببساطة لأن الأخيرة لن تتوانى عن الدفاع عن حقوقها السيادية أمام عصا فرنسا أو الاتحاد الأوروبي أو جزرهما.
ومما لا شك فيه أن تعامل تركيا مع حقوقها السيادية لن يتبدل حتى لو واجهت أنقرة عقوبات إضافية من الاتحاد الأوروبي، وتنسيقًا في هذا الموضوع مع الإدارة الأمريكية الجديدة، مع مسارعة مجلس الشيوخ الأمريكي وتحديدًا يوم الجمعة، إلى إقرار عقوبات ضد أنقرة استنادًا إلى قانون “مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات”.
التناقض الآخر بالنسبة إلى فرنسا هو دور أنقرة، الذي تدعي باريس أنه يسبب “عدم الاستقرار” في ليبيا، حيث يتهم ماكرون تركيا بـ”خرق” قرار الأمم المتحدة المتعلق بعدم توريد الأسلحة إلى ذلك البلد.
لكن باريس تتناسى أن الدور التركي في ليبيا يتمحور حول حماية الحكومة (الوفاق الوطني)، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.
في المقابل، تعمل باريس باستمرار لوضع حكومة الوفاق الوطني، على قدم المساواة مع قوات الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، من أجل إضعاف موقف الحكومة الشرعية في طرابلس.
لكن لماذا تفعل باريس ذلك؟ هل السبب يرجع إلى قيام حكومة الوفاق الوطني بتوقيع مذكرة تفاهم مع تركيا حول تحديد مناطق الصلاحية البحرية للبلدين في شرق المتوسط؟
مشكلة أخرى تزيد من أزمة العلاقات التركية الفرنسية، هي تقديم باريس دعمًا مفتوحًا لواشنطن في مشروع إقامة كيان لمنظمة “بي كا كا” الإرهابية شمالي سوريا وعلى امتداد الحدود مع تركيا، إضافة إلى التغاضي عن الهجمات التي تشنها المنظمة ضد تركيا وأمنها.
وكما قال ماكرون في عدة مناسبات، إن “بي كا كا” منظمة إرهابية، لكن هل قوات سوريا الديمقراطية الخاضعة لسيطرة ذراع المنظمة في سوريا، تنظيم “ب ي د/ ي ب ك” الإرهابي، هم مقاتلون من أجل الحرية؟
وبالنظر إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، نرى في الحقيقة أن تلك المليشيات تعتبر حليفة لفرنسا كما هو الحال بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
وقد دأبت فرنسا على وصف العمليات التركية ضد منظمة “بي كا كا” والمناطق المحررة من تلك المنظمة عبر تلك العمليات في الشمال السوري بأنها “غزو تركي لشمال سوريا”، وفق تعبير الصحافة والجهات الرسمية الفرنسية.
ونتيجة لذلك، يرى ماكرون أن الإجراءات التي تؤدي إلى عدم الاستقرار في سوريا، لا تتمثل في احتلال المناطق الشرقية تحت مظلة الولايات المتحدة بما ينتهك وحدة أراضي سوريا، ولا الإجراءات المتخذة لإقامة دولة حكم ذاتي تتبع لمنظمة “بي كا كا”.
وفي الوقت نفسه يعتبر أن مساعي تركيا حيال المحافظة على الوضع الراهن في سوريا لوقف تدفق اللاجئين إلى أراضيها، هي التي تؤدي إلى حالة “عدم استقرار” في المنطقة.
ولعل آخر التناقضات الفرنسية تتجلى في اعتبار باريس أن الدور التركي الذي يستند إلى القانون الدولي ومقررات الأمم المتحدة فيما يتعلق بتسوية مشكلة “قره باغ” والأراضي الأذربيجانية المحتلة، “يتسبب في عدم استقرار جنوب القوقاز”، بحسب وصفها.
موقف باريس في هذا الملف بوجه الخصوص، والذي يساند أرمينيا التي احتلت أراضي دولة جارة قرابة 30 عاما، يفتقر إلى التعاطف الوجداني والشعور بالآخر، وقد جرى التفاعل مع هذا الموقف بكثير من السخرية بعد الهزيمة التي تلقتها أرمينيا ومغادرتها للأراضي الأذربيجانية.
إضافة إلى ذلك، فإن الإعلان الذي وقعته المجموعات السياسية الخمس في مجلس الشيوخ الفرنسي، والذي اتهم ماكرون وحكومته بعدم التدخل في “قره باغ” كما لو كان عكس ذلك ممكنًا، وأدان أذربيجان، ودعا الحكومة الفرنسية للاعتراف باستقلال “قره باغ”، يظهر في الحقيقة أن ماكرون ليس وحيدًا في هندسة السياسات المناهضة لتركيا.
مما سبق يتضح أن علاقات أنقرة وباريس غير مرشحة في الوقت الراهن للتعافي، ما لم تتراجع فرنسا عن الخطوات التي تعرض أمن تركيا وازدهارها للخطر، وتنتقص من حقوقها السيادية.
فضلًا عن ذلك، فإن التعافي الكامل للعلاقات الثنائية ليس سهلاً، ما لم تتراجع باريس عن السياسات العدائية تجاه أنقرة، لا سيما أن عدم الثقة بين تركيا وفرنسا سيؤدي للأسف إلى عواقب سلبية قد تستمر لعدة أجيال.
أقن أوزجر-AA