في لقاء قبل أربعة أشهر في سوتشي، اقترح نفتالي بينيت على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن يستضيف قمة مع نظيره الأوكراني فلاديمير زيلنسكي، في القدس. وحسب تقرير براك ربيد في موقع “واللاه”، جاءت الدعوة الإسرائيلية بناء على طلب من زيلنسكي، وكان سلف بينيت؛ أي نتنياهو، قدم اقتراحاً مشابهاً قبل ذلك ببضعة أشهر، لكن بوتين رفض الدعوة في الحالتين.
لم يكن بوتين مستعداً لقمة بين روسيا وأوكرانيا في القدس. كان اقتراحاً منطقياً؛ فإسرائيل من الدول القليلة التي لها علاقات دبلوماسية وثيقة، وحتى دافئة، مع كييف وموسكو في الوقت نفسه. وهي في الحقيقة بعيدة عن منطقة القتال، لكن لها مصلحة قوية وواضحة في منع حرب بين روسيا وأوكرانيا، ولديها الكثير مما تخسره إذا نشبت هذه الحرب.
إسرائيل مدينة ملاه ومكان لجوء بالنسبة للطبقة الأوليغاركية الروسية – الأوكرانية، التي كثير من أعضائها، بفضل جذورهم اليهودية، يحملون الجنسية الإسرائيلية لساعة الطوارئ. في أوقات الأزمة، مثلما خلال الثورة في كييف في 2014، التي غزت روسيا في أعقابها شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، كان في إسرائيل الكثير من أرباب المال من الطرفين إلى حين انتهاء الغضب. صالات الفنادق الفاخرة في تل أبيب توفر مكاناً نموذجياً للقاءات لم يكن بالإمكان عقدها في بلادهم التي أتوا منها.
بفضل اتفاقات سرية بين أجهزة المخابرات، بدت إسرائيل هي المكان الوحيد الذي يأمن فيه الأوليغاركيون الذين أغضبوا بوتين، من الاغتيال باستخدام مادة البولونيوم عن طريق وضعها في فنجان الشاي. بوتين وزيلنسكي زارا إسرائيل في السابق، وهما يشعران بالراحة فيها أيضاً بفضل مئات آلاف الروس والأوكرانيين الذين يعيشون في البلاد، ومنذ ثلاثة عقود والدولتان على رأس قائمة الدول التي يأتي منها مهاجرون جدد إلى البلاد.
منذ صعد بوتين إلى السلطة واتبع سياسة خارجية ما بعد سوفييتية عنيفة، اضطرت إسرائيل إلى أن تخطو بحذر زائد حول مصالح الكرملين. هذه الصعوبة أصبحت مهمة في ظل حكم الرئيسين الأمريكيين الأخيرين، براك أوباما ودونالد ترامب، اللذين قادا خطاً من تقليص وجود القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، بما يشبه الرئيس الحالي جو بايدن، مع إبقاء فراغ تملؤه روسيا جزئياً.
من ناحية عسكرية، إسرائيل في مكان متميز جداً من ناحية منظومة علاقاتها. هي في الواقع ليست عضواً في حلف الناتو، لكن لها علاقات وثيقة مع معظم جيوش أعضاء الحلف، التي وجدت تعبيرها في السنوات الأخيرة في عدد متزايد من التدريبات المشتركة في إسرائيل ودول الحلف. في هذه المناورات، يعدّ الجانب “الأحمر” دائماً عدواً متخيلاً، لكنه بالمقابل عدو مزود بأنظمة قتال من إنتاج روسي.
من الجانب الآخر، طوال السنوات الستة والنصف الأخيرة، منذ أرسل بوتين سلاح الجو الروسي لإنقاذ نظام الأسد قبل انهياره نهائياً في الحرب الأهلية، كانت إسرائيل في تنسيق يومي لنشاطاتها الجوية في سماء سوريا. وهي ترتيبات تم الاتفاق عليها في اللقاءات في موسكو على مستوى هيئات الأركان العامة، وتجري على المستوى التكتيكي في خط ساخن بين غرفة العمليات الروسية في قاعدة “حميميم” في سوريا، وبين قيادة سلاح الجو في مقر وزارة الدفاع في تل أبيب. هذا التنسيق يمكن إسرائيل من مواصلة العمل ضد أهداف إيرانية في سوريا، في حين أن روسيا تسيطر على المجال الجوي.
شبكة علاقات الجيش الإسرائيلي مع الناتو ذخر استراتيجي، لكن التنسيق اليومي مع الروس ضرورة استراتيجية. ولتذكير إسرائيل بحالة الوضع في السماء المجاورة، نفذت مؤخراً طائرات قتالية روسية طلعة جوية مشتركة مع طائرات سلاح الجو السوري، ومرت فوق هضبة الجولان، غير بعيد عن أراضي إسرائيل. بل وعني الروس ببث صور من الرحلة الجوية عبر القناة الرسمية.
ثمة اعتبار استراتيجي آخر لإسرائيل يتعلق ببيع الغاز الطبيعي الإسرائيلي لزبائن أوروبيين. فالمخططات الطموحة بإقامة أنبوب تحت البحر يربط حقول الغاز البحرية في إسرائيل باليونان ومن هناك إلى دول أخرى في أوروبا، مخططات تراوح مكانها، وثمة شك في خروجها إلى حيز التنفيذ، ولكن احتمالية نقل الغاز الإسرائيلي بصهاريج -إذا ما نشبت حرب وأوقفت روسيا تزويد الغاز- حاضرة في الخطط الموجودة في أدراج الغرب. ستكون إسرائيل بالطبع سعيدة لبيع الغاز ومساعدة حلفائها الأوروبيين، ولكنها من ناحية أخرى، ستخشى من الطريقة التي سيفسر فيها بوتين هذه الخطوة.
وهماك اعتبار آخر أيضاً، وهو الخوف على سلامة الجاليات اليهودية في شرق أوكرانيا، التي قد تتحول إلى منطقة قتال. في هذه الأثناء، ليس هناك ارتفاع في عدد طلبات الهجرة، لكنه واقع قد يتغير بسرعة، رغم أن بوتين مقرب جداً من زعماء الطائفة اليهودية في روسيا، وزيلنسكي هو نفسه يهودي. الحكومتان العدوتان تعرضان أنفسهما بصفتهما تدافعان عن الجاليات اليهودية فيهما، وتتهم إحداهما الأخرى برعاية اللاسامية، ولكن مشاعر الكراهية لليهود قد تندلع في خضم الفوضى التي ستسود في المنطقة عند نشوب الحرب المحتملة.
لهذه الحساسية، تتجنب إسرائيل منذ سنوات، رغم الضغط من الإدارة الأمريكية، الانضمام إلى بيانات الإدانة التي تقودها الولايات المتحدة ضد أعمال روسيا. وحتى قبل 12 سنة، عشية الغزو الروسي لجورجيا في 2008، حذر بوتين الرئيس شمعون بيرس، الذي التقاه في احتفال افتتاح الألعاب الأولمبية في بكين، مما يتوقع أن يحدث، واهتمت إسرائيل بإعادة مستشارين لشركات أمنية خاصة، عملوا في مساعدة جيش جورجيا، إلى البلاد.
منذ ذلك الحين، تجنبت إسرائيل، بشكل كامل، بيع السلاح والمعدات الأمنية لدول الاتحاد السوفييتي السابق، التي اعتبرتها روسيا عدوة لها. وإذا ما اضطرت إلى الاختيار، فلن يكون لإسرائيل مناص، هي عضو في معسكر الغرب بقيادة الولايات المتحدة، لكن ما دام الأمر يتعلق ببوتين وخططه فستفعل كل ما في استطاعتها لتجنب اختيار الوقوف بشكل علني إلى جانب طرف بصورة واضحة.
القدس العربي نقلا عن مقال للكاتب انشل بابر